عمان- “كل كتاب مخصص لشخص ما، قد يكون فعل الكتابة فعلا منفردًا، ولكنه محاولة مستمرة للوصول إلى شخص آخر، شخص واحد فحسب، لأن كل كتاب يقرأ بمفرده أيَضًا”
هذا ما قالته الكاتبة الأمريكية “سيري هوستفيت”، وهذا أيضًا ما قاله الكاتب الأردني “جلال برجس” ولكن بعبارة أخرى أكثر تكثيفًا، وبسبك أقوى عندما قال أنه كل من يقرأ كتابًا يصبح كاتبه!
استغرقتني تلك الكلمة العجيبة وقتًا طويلًا لأفهم ذلك المقصد من ورائها، وإلى أي مدى كانت تلك الكلمة كاشفة بالنسبة لي، بل أني اختبرت تلك الكلمة ذاتها أثناء قرائتي سيرته الروائية “نشيج الدودوك”.
صحبني الكتاب أيامًا، ويسألني من يراني ممسكًا بالكتاب “يعني إيه دودوك؟” أتعجب كيف لهم أن لا يعرفوا الدودوك؟ ألم يسمعوا مقطوعة ياني الشهيرة “نوستالجيا”؟ ألم يسمعوا تلك الآلة الموسيقية العتيقة التي يعود تاريخ بكائها إلى ثلاثة آلاف عام؟ كيف فاتهم ذلك!
أفسر لهم معنى “دودوك”، وأعود لأقرأ، لأتعثر في نفسي أثناء القراءة؟ لقد أصبحت بشكل ما كما قال جلال برجس كاتبه!
هل كنت في “مادبا” قبل ذلك؟ هل ذهبت إلى هناك؟ كيف تسلط جلال برجس على عقلي؟ أم أني من تسلطت على عقله وسطوت عليه؟ أم أن هناك عقلًا آخر جمعي استقينا منه جميعًا مخاوفنا وتساؤلاتنا وآمالنا وتطلعاتنا؟
هل نحن جميعًا شخص واحد بذات المخاوف والتطلعات والأماني؟ هل اختلافاتنا البسيطة الواهية – والتي تجعلنا ظاهريًا مختلفين تمامًا – ما هي إلا وهم؟
أقرأ عن “حنينا” و”مادبا”، والجد، وجبال الأردن، وأفكر هل هذه سيرة ذاتية للأستاذ جلال برجس أم أنها سيرتنا الذاتية جميعًا؟
كيف أصبحت هو وأصبح هو أنا!
أقرأ عن العم عزيز تلك الشخصية الماركيزية البديعة، وأعيد ترتيب أفكاري عن الكتابة نفسها؟ هل يجوز أن أنسب عزيز لماركيز أم أنسب ماركيز لعزيز؟
إن كليهما – برجس وماركيز – سطى على عقلنا الجمعي جميعًا كبشر، هذه البئر العتيق التي يستطع كل من ملك الحس المرهف أن ينهل منها، فخرج هذا التشابه الغرائبي العجيب..
لم يكن عزيز شخصية روائية، كان شخصية حقيقية، لم تكن “حنينا” هي “ماكوندو”، ولم تكن “أورسولا” هي “شلوى”، ولم تكن قصص النساء خرافة، كن يصدقنها تمامًا، مثلما يحكينها!
ينتابني الشك أثناء القراءة، فأعود لغلاف الرواية واقرأ الكلمة التي صنفت بها الدار الكتاب “سيرة روائية”، ويتضاعف شكي، هل هي رواية؟ أم كتاب رحلات؟ أم سيرة ذاتية؟ أم قطعة موسيقية طويلة؟ “كونشيرتو” بآلة واحدة تعزف وتعزف ولا تبالي..
وكان تفسيري الأخير أنه فن، فن فقط، لا يجب تصنيفه مثلما يصر النقاد على التصنيف والتمييز.
إنه فن يتسرب إلينا بحرفية عالية من تحت الجلد، لنشعر به مباشرة في عروقنا، دون أن ندري أو نحس، تمامًا مثل الشِعر، عندما يطربنا دون أن نعرف بحره أو وزنه..
أبحر في عقل جلال برجس، مرتديًا عباءته عبر الصفحات، أشعر بأحساسيه كأنها أحاسيسي، أتساءل من كتب هذا الكتاب!
عندما وصلت إلى الفصل الأخير وأنا استمع إلى “نوستالجيا” ياني، وآلته الموسيقية، يترافق ذلك بسماع جلال تلك الآلة أخيرًا ويسأل “قوهاش” عن كنهها ، فتقول وهي تحرك أصابعها قرب فمها ببساطة: “دودوك”.
ويكشف لنا جلال عن تلك اللحظة: “هل كانت ستصدقني قوهاش لو قلت لها إنني اسمع صوت هذه الآلة يأتي من دواخلي منذ الطفولة؟ إذن تلك الموسيقى التي كنت اسمعها أو اتخيلها طوال ما سبق من سنين عمري، هي الدودوك، موسيقى غير مؤذية كما يمكن أن يعتقد البعض”.
عندما وصلت إلى تلك النقطة أضاء ذلك المصباح في عقلي؛ إن حياة الكثير منا تعزف فيها تلك الأنشودة الغريبة، والكثير منا يعيش وتلك الموسيقى “غير المؤذية” كخلفية لما نراه، وهذا الصوت كلنا نسمعه، ولكن لا نستطيع أن نفسر ما هو، جميعنًا نسمعه مثل “جلال” الصغير في مادبا قبل أن يسافر إلى رومانيا، جميعنا نسمعه ولا نعرف من أين مصدره؟ بل إننا إذا رأينا شخصًا يمسك ذلك الكتاب البديع سنسأله “يعني إيه دودوك؟”.
جميعنا نسمعه ولكن لم نقابل قوهاش لتخبرنا ما هو؟ ولكن جلال برجس قابلها، وأخبرته بالسر، فأفشاه لنا!
اكتشاف المزيد من أخبار معارض الكتب
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.