عمان-إن المتأمل في معارض الكتب، لا سيما في الخليج العربي، يدرك بسهولة أن العقود الأخيرة قد حملت تحوّلًا جذريًا في المزاج الثقافي السائد. تلك المعارض التي كانت تتفيأ ظلال الكتب الدينية وعلوم اللغة والتاريخ، وتهيمن عليها ملامح الوقار والمعرفة الصلبة، بدأت تنسحب تدريجيًا أمام مدّ جارف من الأدب المعاصر وكتب التنمية البشرية. هذه الكتب، التي تسعى لإعادة صياغة الذات وتحقيق السعادة بخمس خطوات، أو تنصح القارئ بكتاب (دليل كيف تقتل أمرأة)، باتت اليوم تتصدر رفوف المعارض وتسيطر على أذواق الشعوب، حتى كادت تصبح "الثقافة الكوكبية الرسمية". هذا التحوّل، في رأيي، لم يبدّل فقط ملامح المعرض، بل أعاد فرز جمهور الثقافة نفسه إلى فئتين اثنتين لا ثالث لهما: "المثقفون" و"القرّاء". المثقف، كما يظهر في المعرض، هو كائن رمزي لا علاقة له بالكاشير وثقافة الشراء. يتجوّل في المعرض كما لو كان هو الحدث نفسه، يوزّع تحليلاته على الرفوف، ويهمس بكلمات كبرى مثل "سيميائية الاستهلال" و"أزمة الخطاب النقدي"، لكنه لا يخرج من المعرض إلا بذات الوزن الذي دخل به، وربما أقل، إن حصل على سلة كتب هدية. يُصاب هذا المثقف بارتجاج وجداني طفيف إذا ما اقترب من رف الأسعار، وكأن إخراج محفظته من جيبه نوعٌ من الإهانة الأنطولوجية. فالألم الذي قد يصيبه لو سقط فوق رأسه "المعجم التاريخي للغة العربية" يبقى أهون بكثير من وجع تمرير بطاقة الفيزا للشراء. ولأن الإنفاق على الكتب يُعدّ خيانة، مثلها مثل خيانة الترجمة للنص، تراه يعيب على القارئ المتحمّس ويصفه – ضاحكًا – بالمستهلك الساذج. رغم ذلك، تجد اسم هذا المثقف يتصدّر جدول الندوات، وصورته في كل فعالية، يُجاهر بالدعوة إلى القراءة، ويؤكد أن الكتاب هو صديق الإنسان الأول… أما القارئ، الذي لا يُرى في ندوة، فله طقوسه التي لا تخطئها العين. هذا الكائن الهلامي، الذي يتحوّل إلى شخصية صلبة حين يدخل المعرض، يغوص خلف عربات "كارفور" المحمّلة بأكوام الكتب، كأنها عربات إغاثة. تجده يحفظ مواقع دور النشر كأنها جغرافيا مقدسة، ويردّد أسماءها على نحو مستفز. يسير كمن يقوده حدسٌ خفي إلى العناوين النادرة، يتوقف فجأة، يلتقط كتابًا، يشهق، ثم يُلقيه في سلة ممتلئة، دون أن يُفكر في مكانه في البيت أو رصيده في البنك. هذا القارئ يستهلك القهوة والسجائر بشراهة روحية؛ يشعل سيجارة وفي يده كتاب مت فارغًا وسيرة ديغول، التي لن يقرأها أبدًا. وهو نفسه الذي يضرب موعدًا مع صديق ليلتقيه في جناح دار النشر، ثم ينساه تمامًا، وإذا صادفه بعد ثلاث ساعات في الممر، يتظاهر بأنه لم يره. وهكذا، تتحوّل معارض الكتب إلى مشهد اجتماعي معقّد، يمزج بين الاستعراض والافتتان، بين السخرية والجد، بين من يتحدّث عن الكتاب ومن يملأ الحقائب به. وربما تكون هذه المفارقة بالذات هي أجمل ما في المعرض…