جلال برجس يكتب: على ضفاف الجرأة.. التحرير الأدبي ومكانته الملتبسة عربيًا
عمان (بي اف نيوز)- يرى الكاتب والروائي الأردني جلال برجس أن” التحرير الأدبي مجرد مقترح، مثلما أن الرواية من دون تحرير هي أيضًا مقترح إنساني، وأننا بأمس الحاجة لإحداث قناعات جديدة حيال النص الروائي، وحاجته لقراءة محايدة تضيف على ما نتج عن انتشار الفن الروائي مؤخرًا ما يجعل النتاجات في هذا الشأن أقل ارتباكًا وأكثر جمالًا ووعيًا.
وكشف في مقالة نشرت على موقع “أثير” اليوم الأربعاء، بعنوان “على ضفاف الجرأة.. التحرير الأدبي ومكانته الملتبسة عربيًا”، أنه مارس التحرير الأدبي على مستويين؛ الأول شخصي من خلال رواياته، والثاني مع عدد من دور النشر العربية لسنوات خلت!
وتاليا نص المقال:
من أكثر اللحظات إشكالية في عالم الكتابة الروائية هي تلك اللحظة التي يصوَّب الكاتب فيها فوهة قلمه لرأس الصفحة، مدفوعًا بشغف كبير نحو استخراج ما في تلافيفه السرّية إلى عوالم العلن، سواء استجوب نفسه من دون مواربة، أو اختبأ وراء أحداث، وشخصيات، وأزمنة، وأمكنة ليست له.
وما كان لهذا البوح وما يحيطه من شغف أن يأتي لولا الصبر على مراحل انتظاره ليكون بكل ذلك التدفق، تمامًا كعطشان أنفق وقتًا يحاول تخليص فم النبع من حجر يلجم رغبة الماء بالانطلاق. وحين يلتقط الكاتب تلك اللحظة يصير أشبه بمظلوم محكوم بالإعدام مُنح دقائق معدودة للدفاع عن نفسه؛ فيقول كل ما عنده دفعة واحدة، بشيء من الارتباك، والعجلة، والسعي إلى القبض على العبارة التي لها أن تنقذه من حبل المشنقة. أعتقد أن الكتّاب الذين يعيشون طويلًا في ذاكرة القراء هم هكذا؛ يسعون إلى الخلاص من حبل المشنقة. لكن يا هل ترى ماذا لو مَنح القاضي الشخص المحكوم بالإعدام يومًا ليستريح فيه قبل جلسة الحكم، وأعطاه فرصة لإعادة صياغة ما قاله؟ هل ستبقى بداية حديثه كما هي، أم يستبدلها بواحدة أكثر إقناعًا؟ ما الذي سيستثنيه من سرديته؟ وما الذي سيضيفه إليها؟ أي الكلمات سيراها مناسبة أكثر من غيرها، ولها وقع أكثر تأثيرًا؟ وما هي الجمل، والعبارات، والكلمات التي يراها زائدة لا نفع لها؟ أي الكلمات، أو العبارات التي يراها مكررة يمكن أن تُحدث الملل؟ هل يكون جريئًا في إعادة الاشتغال على مرافعته الشخصية عن نفسه؟ وهل ستكون تلك المرافعة بالسوية ذاتها التي يمكن أن يعيد صياغتها محام مطلع على كافة تفاصيل القضية؟ يعيد صياغتها بهدوء، وروية، يتعاطف معها القاضي، وبالتالي تقنعه، فينال حكمًا بالبراءة.
أعتقد أن هذا التشبيه والتقريب ينطبق نوعًا ما على الكتابة، وعلى التحرير الأدبي. وبما أن الرواية جنس أدبي غير ثابت؛ فلا مناص من القول في هذا السياق بأن كل ما نفعله ونقوله حيالها هو أمر نسبي، غير قابل لاستخدامه لإطلاق الحكم النهائي عليها، رغم تداول بعض ما يراه المختصون ثوابت فيما يتعلق بكتابتها، وبالتالي تحريرها أدبيًّا.
ينكب الروائي على نصه بوعي التداعي المدفوع بشهوة البوح والخلاص، ثم حين يهدأ ويعود مشتغلًا عليه؛ يكتشف النواقص، والزوائد، وما يمكن أن يطرأ على ما كتب. لكن هل هذا يكفي لإرخاء العنان للرواية بأن تجد طريقها للقراء؟ بطبيعة الحال لا يكفي ذلك. نشأ الفن الروائي عربيًا بمعزل عن الطرف المحايد، أي المحرر الأدبي، إلا من آراء لعدد قليل من أصدقاء الروائي ولا تندرج في باب التحرير الأدبي.
قبل عشرين سنة تقريبًا ظهر دور المحرر الأدبي في الوطن العربي، وسار في دربه متخفيًّا، لئلا يعبث بقناعة الكاتب التي ترى في تدخله انتقاصًا من قدرته الإبداعية، وشخصيته المهمومة بالفعل الكامل. ونتيجة لصعود الفن الروائي عربيًا، وتطور قطاع النشر؛ أخذ موقع المحرر الأدبي في السنوات العشر الأخيرة يظهر في قالب مهني معلن، وباتت الهوة بينه وبين الروائيين تتجسر شيئًا فشيئًا، لكنه ما يزال على ضفاف الجرأة، الأمر الذي صار بحاجة إلى مؤسسات ثقافية تذيب هذا الجبل الجليدي الذي يقع بين الكاتب وبين من يستطيع أن يقرأ النص بوعي مختلف عن وعي كاتبه، وغالبًا ما يكون متقاطعًا مع وعي قراء تضجرهم البدايات المرتبكة، والسرد الفائض عن الحاجة، والكلمات الزائدة، والمكررة، والتوصيفات غير المناسبة، والإطالة بعمر بعض المشاهد الروائية. صرنا بحاجة إلى أن يتخلى الكاتب عن قناعته بالقدرة على إحداث الكمال؛ إذ يمكن للروائي أن يكون محررًا لنصوصه، لكنه لن يستطيع التغلب بالشكل المطلق على عاطفته نحو نصه، وهذا بالطبع يجعل يده تتردد ألف مرة وهي تقدم على الحذف، أو التشذيب، أو استبعاد ما يراه توصيفًا جميلًا.
لقد مارست التحرير الأدبي على مستويين؛ الأول شخصي عملت من خلاله على رواياتي؛ إذ كنت أبتعد عن الرواية لزمن كفيل بنسيان ما كتبت، والخروج من مزاج الكتابة، وملحقاته العاطفية، والعقلية، واللغوية، والحسية. وحين أعود أجدني قارئًا يكتشف ما لم يكن بالحسبان، قارئًا متعقلًا، لكن ليس بتلك النسبة التي يمكن أن تغنيني عن أن أدفع بما كتبت لعدد من الأصدقاء الذين أثق بآرائهم.
والمستوى الثاني هو ممارسة التحرير الأدبي لسنوات مع عدد من دور النشر العربية. كنت أجد متعة كبيرة في العمل على رواية ليست لي، متعة لا تتقاطع بمتعة الروائي حينما يعيد قراءة ما كتب؛ إذ تتملكني -إن أجيزت لي التسمية-عاطفة عقلية، وشغف سردي في صقل النص، وتخليصه مما يمكن أن يعيق دربه نحو القارئ. أقرأ ما بين يدي ثلاث مرات. في القراءة الرابعة، تتضح الجوانب التي يمكن الاشتغال عليها أكثر من ذي قبل، وكأن تكرار القراءة وتأمل النص يفضيان إلى تمييز ما هو بحاجة للتحرير بلون فاقع. حدث وأن حذفت عشرات الصفحات من بعض الروايات، وحدث أن طلبت من الروائي أن يضيف صفحات في روايات أخرى. حدث أن استبدلت صفحة بكلمتين، واستبدلت كلمة بصفحة.
رغم إداركي أن التحرير الأدبي مجرد مقترح، مثلما أن الرواية من دون تحرير هي أيضًا مقترح إنساني، ومثل أي قراءة لأي رواية هي في المحصلة وجه نظر القارئ، إلا أننا بأمس الحاجة لإحداث قناعات جديدة حيال النص الروائي، وحاجته لقراءة محايدة تضيف على ما نتج عن انتشار الفن الروائي مؤخرًا ما يجعل النتاجات في هذا الشأن أقل ارتباكًا وأكثر جمالًا ووعيًا.
اكتشاف المزيد من أخبار معارض الكتب
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.