أيهم السهلي يكتب عن أسبقية الأدب على السياسة لدى كنفاني
عمان (بي إف نيوز)- يعتبر بشير أبو منّة في كتابه “الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر”[1] أن الأدب عند غسان كنفاني سبق السياسة “بل أدى إليها أيضاً. والعلاقة السببية هنا في غاية الأهمية، إذ دفعته مساهمته الأدبية في واقع التشرد والحرمان الفلسطيني إلى العمل السياسي، مع إدراك أهمية العمل الأدبي والفني وتميُّزه. وأدى الواقع، لا النزعات والمدارس الأدبية، الدور الأهم في صوغ أدبه وكتاباته؛ ذلك بأن قضايا فلسطين تتطلب حلولاً سياسية عبر سياسات مطلعة واعية لواقع الفلسطينيين وألمهم اللذين بحث فيهما ومثَّلهما غسان كنفاني في قصصه المبكرة.”[2]
ما ذهب إليه أبو منّة من أسبقية الأدب على السياسة لدى كنفاني يمكن فهمه، باعتبار أن غسان المولود في سنة 1936 والمهجر من فلسطين في سنة 1948، عاش القهر الفلسطيني المتعدد الأوجه، من التهجير وما تخلله من مرارات، إلى حياة المخيمات وما فيها من متاعب مستمرة حتى اليوم، فكان الأدب أداته الاحتجاجية الأولى، وكانت السياسة في هذا السبيل الطريق الأُخرى التي يمكن أن يسلكها الاستثنائي.
ابناً للناس
كان غسان كنفاني فاعلاً متفاعلاً مع محيطه الذي دأب على العمل معه وتثويره، ليس بالمعاني النظرية كما يفعل المثقف عادة، فدأبه كان، بصفته واحداً من المناضلين، وقد “أدرك حقيقة وواقع ما أراد تغييره، عبر الرواية والأدب، وإنه أمل بأن يكون لأدبه الأثر ذاته في الآخرين، الأمر الذي يفسر حس الضرورة الملحّة والآنية التي تميز أعماله.”[3]
لفهم هذه الحالة بشكل أفضل، يمكن الرجوع إلى حوار أجرته مجلة “الآداب اللبنانية” مع زوجة غسان، آني، التي تتذكر لقاءهما الأول في بيروت في سنة 1961، عندما كانت مرسلة بتوصية من أحد رفاقه من دمشق، ولدى طلبها منه الذهاب إلى المخيمات لتشاهد عن كثب، “غضب، وقال إنني لا أوافق على أن تشاهدي مخيمات اللاجئين قبل أن تعرفي أكثر عن المسألة كلها”.[4] وبالمقارنة والمقاربة مع سيرة غسان، يمكن الانتباه مباشرة إلى أن أدبه تناول حياة شعبه كموثّق عبر الأدب من جانب، وعبر الدراسات من جانب آخر، منذ قصته الأولى “شمس جديدة” سنة 1956[5] حتى آخر أعماله “عائد إلى حيفا”[6] ورواية “العاشق”[7] التي لم يكملها. يكتب الروائي الياس خوري “جميع قصص كنفاني ليست كافية لتعطينا صورة كاملة عنه. فالرجل كان قصاصاً وناقداً أدبياً وكاتباً مسرحياً ومحللاً سياسياً وكان قبل كل شيء مناضلاً.”[8] ويضيف خوري: “قصص كنفاني تواكب القضية عبر تطوراتها المختلفة. لكن العين التي تواكب تنتقل من مستوى إلى آخر. تبعاً لتطور القضية نفسها وللتطور السياسي والفكري الذي عاشه الكاتب عبر تفاعله اليومي المستمر مع شعبه.”[9]
خلال اللقاء الأول بين آني وغسان، أخبرها عن قضية الشعب الفلسطيني، كيف نشأت هذه القضية، وكيف نشأت مشكلة اللاجئين الذين كانت ترغب برؤية مخيماتهم، فانخرطت آني بعد ذلك بفترة قصيرة في حياة اللاجئين كمعلمة، ولاحقاً زوجته وأم ولديه فايز وليلى، ومديرة لمؤسسة حملت اسمه بعد استشهاده، تعلمت فيها ولا تزال أجيال فلسطينية وعربية فكر غسان الثوري – الثقافي.
لقد كان غسان كنفاني على ما يبدو مؤمناً بأن الوصول إلى الناس، هو الوصول إلى السياسة، ولا يمكن الوصول إليهم إلاّ من خلال قصصهم التي هي في الجوهر حكاية إنسانية، وفي الوضع الفلسطيني تصبح حكاية إنسانية – سياسية. يقول غسان في حوار نشرته مجلة شؤون فلسطينية في سنة 1974 “التأثير الأكبر على كتاباتي يرجع إلى الواقع نفسه: ما أشاهده، تجارب أصدقائي وعائلتي وإخواني وتلامذتي، تعايشي في المخيمات مع الفقر والبؤس. هذه هي العوامل التي أثرت فيّ.”[10]
نشأت علاقة غسان مع الناس والانتماء العميق إليهم لسبب رئيسي يعود إلى كونه منهم، ومرّ بما مروا به من عوامل قهر وفقر، فيقول غسان “خلفيتي مرتبطة بالطبقة الوسطى إذ أن والدي كان ينتمي إليها قبل أن نذهب إلى سوريا كلاجئين. وكان التصاق عائلتي بجذورها [الطبقية] بعيداً عن الواقع الذي لم تكن بينه وبين تلك الجذور أية صلة. وكان علينا، نحن الأولاد، أن ندفع ثمن هذا التناقض [بين الماضي والواقع]. وبالتالي، أصبحت علاقتي [مع أفراد طبقتي] علاقة عدوانية بدلاً من أن تكون علاقة ودية. ولن أدعي بأني انضممت إلى البروليتاريا. لم أكن بروليتارياً حقيقياً، بل انضممت إلى ما نسميه في لغتنا بـ ‘البروليتاريا الرثة’ التي لا يشكل أفرادها جزءاً من الجهاز المنتج فهم [يعيشون] على هامش البروليتاريا.”[11]
في كلام غسان السابق، تفسير آخر لأدبه، يبين انحيازه الأدبي والفني لشريحة الفلسطينيين الفقراء-اللاجئين الذين كانت تعج بهم مخيمات اللجوء، وحتى اليوم غالباً. ويوضح في هذا المكان الدكتور الراحل إحسان عباس ما يلي: “من يقرأ قصص غسان يدرك دون عناء أن أشخاصه من أبناء الشعب البسطاء، وكثير منهم أطفال أو شبان يعملون بدافع من صدق الفطرة، دون أن يبلغوا سن ‘الحكمة’، وليس فيهم من يحاول أن يفلسف الدور الذي يؤديه أو الغاية التي يسعى إليها. فمنهم من يضحي بحياته دون أن تمر بخاطره ‘لمَ’؟ ومنهم من يتحمل عبء العائلة الكبيرة التي خلفها له أبوه والتشرد معاً دون أن يتذمر، ومع ذلك فإنهم في مثل هذه المواقف ليسوا سلبيين، كما أنهم ليسوا أطهاراً كالملائكة”[12]
الأدب يحرك الثورة
حمّل غسان أدبه، هموماً سياسية ووطنية وإنسانية، مرتبطة بالأرض المحتلة والشعب الصامد، في الداخل وفي مخيمات الخارج، والذي كان يتطلع إلى نجاته عبر الثورة فقط، وعدا عن أدبه ودراساته السياسية والثقافية التي أكدت ذلك، فقد قال ذات مرة لأم سعد “الثورة طريق فلسطين. فلسطين يا مجنونة! الثورة طريق الدنيا”[13] ما قاله غسان لأم سعد في حديث ما جرى بينهما، قرأنا جوهره في “عائد إلى حيفا”، مثلاً: “لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أمّا خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح.”[14] وفي قصة “أم سعد” أيضاً إذ كتب: “هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلف وفلسطين تأخذ!”.[15] ورجال في الشمس “لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟”. ولربما اليوم يعيد غسان الصدى الذي رددته الصحراء ليعاتبنا وينهرنا وينبهنا “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟”.[16]
تلك المبادئ التي أعلنها غسان في أدبه المتنوع بين القصة والرواية والمسرح، تنطلق من قناعات واضحة لديه، بأن الأدب أساس في الثورة بل ويقود إليها، يجيب غسان في الحوار المذكور أعلاه الذي نشرته مجلة “شؤون فلسطينية” بعد استشهاده، عن سؤال، هل رافق تطورك الأدبي تطورك السياسي؟
“نعم، في الواقع، لا أدري ما الذي سبق الآخر. قبل البارحة، كنت أشاهد إحدى قصصي التي أنتجت كفيلم سينمائي. كنت قد كتبت هذه القصة عام 1961. وقد شاهدت الفيلم بمنظور جديد إذ اكتشفت فجأة بأن الحوار بين الأبطال وخط تفكيرهم وطبقتهم [الاجتماعية] وطموحاتهم وجذورهم في ذلك الحين كانت تعبر عن مفاهيم متقدمة من أفكاري السياسية. [إذن] باستطاعتي القول بأن شخصيتي كروائي كانت متطورة أكثر من شخصيتي كسياسي، وليس العكس، وينعكس ذلك في تحليلي للمجتمع وفهمي له.”[17] ويضيف مجيباً عن سؤال آخر، “لقد دهشت عندما سمعت [مجدداً] حوار أبطالي حول مشاكلهم واستطعت أن أقارن حوارهم بالمقالات السياسية التي كنت قد كتبتها في الفترة الزمنية ذاتها فرأيت بأن أبطال القصة كانوا يحللون الأمور بطريقة أعمق وأقرب إلى الصواب من مقالاتي السياسية.”[18]
ختاماً
قد لا يغير الأدب المجتمعات بالشكل المباشر والحرفي للكلمة، لكنه قادر على ترك آثاره فيها، في القراء ومن هم على أطراف القراء من مستمعين ومتلقين ومتلقفين. وعلى مستوى آخر، الأدب، مساهم رئيسي في تعبئة الجماهير، وهذا ما فعله أدب غسان كنفاني، ولا سيما بعد استشهاده.
ونسبياً يرتفع منسوب هذه الحالة اليوم، بالعودة إلى مقولات مقتبسة من قصصه ورواياته أو دراساته، ونشرها، والكتابة عنه، وهذا لا يعني على الإطلاق أن كل من ينشر بالضرورة قرأ لغسان، لكنه يفهم مقولاته بمضامينها الثورية والرؤيوية، ولا سيما بعد استشهاده. فقد اغتيل في زمن كانت فيه الثورة هي المعيار، والسياسة ضمن الثورة في خدمة الأهداف العليا لها ولأهدافها. وبهذا المعنى كان غسان ثائراً ومناضلاً من أجل قضيته. يقول في الحوار المذكور أعلاه الذي نشرته شؤون فلسطينية سنة 1974 “الحركات السياسية شبيهة بالإنسان. فعندما يكون الإنسان معافى ومشهوراً وغنياً يلتف حوله الأصدقاء ويسانده الجميع. ولكن عندما يشيخ ويمرض ويخسر أمواله ينفض الأصدقاء من حوله.”[19]
———————–
[1] بشير أبو منّة، “الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر” (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 2020). [2] المصدر نفسه، ص 119. [3] المصدر نفسه. [4] سماح إدريس، “حوار مع آني كنفاني”، “الآداب”، العددان 7 و8 (تموز / يوليو وآب / أغسطس 1992)، ص 19، في الرابط الإلكتروني. [5] حوار مع غسان كنفاني في “شؤون فلسطينية”، العدد 35 (تموز/ يوليو 1974)، لكن القصة نُشرت في مجلة “الآداب” في العدد 2 (شباط 1957)، ص 50 – 51، في الرابط الإلكتروني. [6] غسان كنفاني، “عائد إلى حيفا”، “الآثار الكاملة: الروايات” (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، ط 3، 1986)، المجلد الأول، ص 337 – 414. [7] غسان كنفاني، “العاشق”، “الآثار الكاملة: الروايات” (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، ط 3، 1986)، المجلد الأول، ص 417 – 467. [8] إحسان عباس وفضل النقيب وإلياس خوري، “غسان كنفاني إنساناً وأديباً ومناضلاً” (د. م.: منشورات الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، د. ت.)، ص 91. [9] المصدر نفسه، ص92 [10] “حديث يُنشر لأول مرة مع الشهيد غسان كنفاني”، مجلة “شؤون فلسطينية”، العدد 35 (تموز / يوليو 1974)، ص 139. [11] المصدر نفسه، ص 140. [12] عباس والنقيب وخوري، مصدر سبق ذكره، ص 15. [13] سماح إدريس، ” حوار مع أم سعد”، “الآداب”، العددان 7 و8 (تموز / يوليو وآب / أغسطس 1992). ص 36، في الرابط الإلكتروني. [14] كنفاني، “عائد إلى حيفا”، مصدر سبق ذكره، ص 412. [15] غسان كنفاني، “أم سعد”، “الآثار الكاملة: الروايات” (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، ط 3، 1986)، المجلد الأول ، ص 334 [16] غسان كنفاني، “رجال في الشمس”، “الآثار الكاملة: الروايات” (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، ط 3، 1986)، المجلد الأول، ص 152 [17] “حديث يُنشر لأول مرة…”، مصدر سبق ذكره، ص 138. [18] المصدر نفسه. [19] المصدر نفسه، ص 142.المصدر: وكالة القدس للأنباء
اكتشاف المزيد من أخبار معارض الكتب
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.